عصر المعلومات الزائدة information overloaded (الجزء الثالث – تعدد المهام)
تعدد المهام ليس هو كل المطلوب ..
تحدثنا في مقال سابق من هذه السلسلة عن مفهوم الحمل
المعرفي Cognitive Load والذي لخصنا
فكرته بمقدار تعرض الذاكرة العاملة (الذاكرة قصيرة الأمد) للمعلومات خلال فترة محددة..لكن
ماذا عن تعدد المهام وارتباطه بالحمل المعرفي الزائد؟! .. هذا ماسنتناوله في مقالتنا
هذه..
يرتبط الحمل الزائد للمعلومات بتعدد المهام, فكثير من
الأشخاص يفخرون بكونهم متعددي المهام ويرونها مهارة رائعة, لكن تشير الدلائل إلى
أن تعدد المهام لا يؤدي الى تحسين العمل أو جودة في اتخاذ القرار أو زيادة في الإنتاجية لكنه
على العكس يؤدي الى تراجع في الأداء وبمعدلات الذكاء ..
ففي دراسة أجرتها
شركة ADAGE في بوسطن – أمريكا
عام 2012 تبين أن 27 مرة في الساعة هو معدل تنقل المراهقين بين منصات السوشال ميديا .. وهذا مايمكن ان يخفض مستوى ذكائهم بمقدار 15 نقطة مقارنة مع انخفاض ب 8 نقط فقط لدى المراهقين مدمني تدخين الماريجوانا.
وهذا ما أكدته دراسات لاحقة {1,2}, لكن الملفت للنظر في تلك الدراسات هو أنك عندما تمارس تعدد المهام اليومي فلن ينعكس ذلك على تراجع جودة أداء تلك المهام المتعددة وسرعة تنفيذها فحسب بل سيخفض من أدائك العملي والمعرفي بشكل عام ويضعف القدرة على تحديد الأولويات لتحقيق الأهداف أيضا.
وفي دراسة أخرى لجامعة يورك البريطانية تبين أن الاشخاص متعددي المهام سجلوا تراجعا بنسبة 11% في اختبار الفهم القياسي عن أولئك الذين لايقومون بمهام متعددة في نفس الوقت.
فأدمغتنا بطبيعة الحال لا تستطيع الإنتباه والتركيز على أكثر من شيء واحد في نفس الوقت, أما تحويل الانتباه السريع والمتكرر بين الأشياء فيؤدي إلى تجاهل معلومات قد تكون مهمة وإلى إدراك غير دقيق للعديد من المعلومات الأخرى.
وهذا ما عززه باحثوا معهد Cognitive Neuroscience في لندن من خلال مسح أجروه لأدمغة أشخاص متعددي المهام ليتبين التراجع الملحوظ في كثافة المادة الرمادية في القشرة الأمامية للدماغ مما يؤدي إلى انخفاض في أداء التحكم المعرفي بشكل واضح, وهذا ماينسحب بدوره على الأشخاص الملازمين لمتعددي المهام والذين يصابون بحالة من التشتت أثناء مراقبتهم بشكل لاشعوري لهم ومحاولة تفسير الأداء أثناء تنفيذ المهام المتعددة بنفس الوقت .
تعدد المهام وفلترة المعلومات
وجدت أيضا العديد من الدراسات التي أجريت على الأشخاص متعددي المهام
على السوشال ميديا والذين يعملون لفترات طويلة مقارنة بالأقل عملا منهم, أن الأكثرعملا لديهم قدرة أقل على فلترة المعلومات (وهذا ماتناولناه في مقالتنا السابقة ) وتصفيتها واستخدام المعلومات المفيدة منها, كما يبدون أكثر قدرة على
الإنتباه إلى الإطار العام للمعلومة من الإنتباه إلى التفاصيل والجزئيات الصغيرة
ومعلومات معينة بحد ذاتها, إضافة إلى أنهم أقل قدرة على القيام بالمهام المتعددة الكبيرة
وإنجازها في فترة زمنية محددة, فهم غالبا يصنفون جميع المعلومات على أنها متساوية
تقريبا في الأهمية, كما يصعب عليهم تعلم وتذكر معلومات مهمة جديدة عندما يشتت
انتباههم الكثير من الأنشطة .
لكن للأسف فقد أصبح تعدد المهام المزمن منتشرا في كل
مكان تقريبا مما يخلق تحديات كبيرة ويؤثر سلبا على الإدراك البشري والتفكير
والتعلم, خصوصا وأنه حسب قانون باركنسون يوجد ميل بشري لبذل الجهد
والوقت في مهام أقل أهمية والتي ينظر إليها على أنها مهمة بدلا من المهام ذات
الأهمية الحقيقية.
ومنذ عام 1967 أكد Peter
Drucker في كتابه “The Effective Executive” أن الفعالية في إنجاز المهام تتطلب
تركيز الإنتباه على مشكلة واحدة في كل مرة والتزاما بتنفيذها وتسليم المهام المرتبطة بها في الموعد المحدد.
تعدد المهام والتعلم
في دراسة أجراها Richard E Mayer and Moreno وجدوا أنه من الصعوبة بمكان إن لم يكن من المستحيل تعلم أشياء جديدة عند الإنهماك بمهام متعددة. ومن خلال بحث أجراه Reynol Junco and Shelia R Cotten على مدى تأثير تعدد المهام على النجاح الأكاديمي عند الطلاب تبين انخفاض المستوى الأكاديمي خصوصا أثناء التفاعل مع وسائل التواصل الاجتماعي خلال عملية التعلم مما انعكس بشكل سلبي على نتائج الطلاب.
تعدد المهام وتوفير الوقت
استناد إلى ماسبق وبما أن الدماغ لايستطيع التركيز بشكل كامل عند تعدد المهام, بالتالي فإن التنفيذ عمليا سيستغرق وقتا أطول نتيجة تزايد احتمالة الوقوع بالأخطاء عند محاولة إكمال تلك المهام والتبديل بينها مقارنة مع إجرائها بشكل متتابع.
يقول Richard E Mayer “أن الدماغ مجبر عند التبديل بين المهام على إعادة التشغيل والتركيز في كل مرة” كما أن الفترة الفاصلة بين كل تبادل لا يحرز فيها الدماغ أي تقدم على الإطلاق بالتالي فإن تعدد المهام لايؤدي إلى قلة جودة النتائج المرجوة فقط وإنما إلى إضاعة الوقت أيضا.
تأثير بيئة العمل على تعدد المهام
تتوجه العديد من الشركات إلى نمط مكاتب مفتوح لموظفيها لتعمل على تعزيز التعاون فيما بينهم من وجهة نظر تلك الشركات وإلى المساعدة في إنشاء بيئة لتنفيذ مهام متعددة من جهة أخرى لتسريع العمل, لكن الإحصائيات والدراسات تثبت عدم جدوى هذا التوجه.
ففي عام 2008 وحده تبين
وجود هدر في الشركات الأمريكية بما مقداره 650 مليار دولار سنويا بسبب تعدد المهام .وهذه نتائج تعد مخيفة إلى حد ما خصوصا أن نظام المكاتب المفتوحة أصبح سائدا عند أكثر من 70% من الشركات الأمريكية على الأقل حاليا.
ختاما
Shadi Mouhriz